فصل: قال مجد الدين الفيروزابادي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قول الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ» قالهَا ثَلَاثًا. وَذَلِكَ كَالْمَشْهَدِ الَّذِي بُنِيَ بِالْقَاهِرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحُسَيْنِ وَهُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَرَأْسُ الْحُسَيْنِ لَمْ يُحْمَلْ إلَى هُنَاكَ أَصْلًا وَأَصْلُهُ مِنْ عَسْقَلَانَ. وَقَدْ قيل إنه كَانَ رَأْسُ رَاهِبٍ وَرَأْسُ الْحُسَيْنِ لَمْ يَكُنْ بِعَسْقَلَانَ وَإِنَّمَا أحدثَ هَذَا فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ الْمَلَأحدةِ بَنِي عُبَيْدٍ. وَكَذَلِكَ مَشْهَدُ على- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إنَّمَا أحدثَ فِي دَوْلَةِ بَنِي بَوَّيْهِ وَقال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مُطَيَّن الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ: إنَّمَا هُوَ قَبْرُ الْمُغِيرَةِ ابْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا دُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ وَدُفِنَ مُعَاوِيَةُ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِدِمَشْقَ وَدُفِنَ عَمْرُو بْنُ العاص بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِمِصْرِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ إذَا دُفِنُوا فِي الْمَقَابِرِ الْبَارِزَةِ أَنْ ينبشهم الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ كَانُوا تَعَاهَدُوا عَلَى قَتْلِ الثَّلَاثَةِ فَقَتَلَ ابْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا وَجَرَحَ صَاحِبُهُ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرًا كَانَ اسْتَخْلَفَ رَجُلًا اسْمُهُ خَارِجَةَ فَقَتَلَهُ الْخَارِجِيُّ. وَقال: أَرَدْت عَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ خَارِجَةَ. فَسَارَتْ مَثَلًا. فَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ إنَّمَا أحدثَ فِي دَوْلَةِ الْمَلَأحدةِ دَوْلَةِ بَنِي عُبَيْدٍ. وَكَانَ فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَمُعَاضَدَةِ الْمَلَأحدةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَلِهَذَا كَانَ فِي زَمَنِهِمْ قَدْ تَضَعْضَعَ الْإِسْلَامُ تَضَعْضُعًا كَثِيرًا وَدَخَلَتْ النَّصَارَى إلَى الشَّامِ فَإِنَّ بَنِي عُبَيْدٍ مَلَأحدةٌ مُنَافِقُونَ لَيْسَ لَهُمْ غَرَضٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلْ فِي الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَمُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَأَتْبَاعُهُمْ كُلُّهُمْ أَهْلُ بِدَعٍ وَضَلَالٍ فَاسْتَوْلَتْ النَّصَارَى فِي دَوْلَتِهِمْ عَلَى أَكْثَرِ الشَّامِ ثُمَّ قَيَّضَ اللَّهُ مِنْ مُلُوكِ السُّنَّةِ مِثْلَ: نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ وَإِخْوَتِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ فَفَتَحُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَجَاهَدُوا الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ حِينَئِذٍ وَالشَّيْطَانُ يُقَارِنُهَا وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْمُصَلِّي لَا يُقْصَدُ السُّجُودَ لَهَا لَكِنَّ سَدَّ الذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَتَشَبَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّونَ بِهَا فَيُفْضِي إلَى مَا هُوَ شِرْكٌ؛ وَلِهَذَا نَهَى عَنْ تَحَرِّي الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ هَذَا لَفْظُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَقَصْدُ الصَّلَاةِ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَأَمَّا إذَا حَدَثَ سَبَبٌ تُشْرَعُ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ: مِثْلَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مَعَ أمام الْحَيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابُهُ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَا شَرَّ فِيهِ وَهُوَ يَفُوتُ إذَا تُرِكَ وَإِنَّمَا نَهْيٌ عَنْ قَصْدِ الصَّلَاةِ وَتَحَرِّيهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ بِقَصْدِ السُّجُودِ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَمَا لَا سَبَبَ لَهُ قَدْ قَصَدَ فِعْلَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْوَقْتَ بِخِلَافِ ذِي السَّبَبِ فَإِنَّهُ فَعَلَ لِأَجْلِ السَّبَبِ فَلَا تَأْثِيرَ فِيهِ لِلْوَقْتِ بِحَالِ وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ عُمُومًا فَقال: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا وَقَدْ صَحَّحَ الْحِفَاظُ أَنَّهُ مُسْنَدٌ فَإِنَّ الْحَمَّامَ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ وَالْمَقَابِرُ نَهَى عَنْهَا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُتَّخِذِينَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي قَدْ لَا يَقْصِدُ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ فَضِيلَةِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ بَلْ اتَّفَقَ لَهُ ذَلِكَ. لَكِنَّ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِمَنْ يُقْصَدُ ذَلِكَ فَنَهَى عَنْهُ كَمَا يَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ فَضِيلَةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِمَنْ يَقْصِدُ فَضِيلَةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَنَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ كَنَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ الَّذِي أَضَلَّ أَكْثَرَ بَنِي آدَمَ أَصْلُهُ وَأَعْظَمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْبَشَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمُصَوَّرَةِ عَلَى صُوَرِهِمْ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ اعْتَادُوا آلِهَةً يَلِدُونَ وَيُولدونَ وَيَرِثُونَ وَيُورَثُونَ وَيَكُونُونَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إلَهِهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ أَمِنْ كَذَا أَمْ مِنْ كَذَا؟ وَمِمَّنْ وَرِثَ الدُّنْيَا؟ وَلِمَنْ يُوَرِّثُهَا؟ فَقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد}. وَفِي حَدِيثِ أبي بْنِ كَعْبٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ أحد يُولد إلَّا يَمُوتُ وَلَا أحد يَرِثُ إلَّا يُورَثُ يَقول: كُلُّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَدْ ولد مِثْلُ الْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّالِحِينَ وَتَمَاثِيلِهِمْ وَمَثَلُ الْفَرَاعِنَةِ الْمُدَّعِينَ الْإِلَهِيَّةَ فَهَذَا مَوْلُودٌ يَمُوتُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَرِثَ مِنْ غَيْرِهِ مَا هُوَ فِيهِ فَإِذَا مَاتَ وَرِثَهُ غَيْرُهُ. وَاَللَّهُ سبحانه حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ سبحانه وَتعالى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

سورة الإخلاص:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد (1)}
قوله: {قُلْ هُوَ الله أحد}: في {هو} وجهان:
أحدهما: أنه ضميرٌ عائدٌ على ما يفْهَمُ من السياقِ، فإنه يُرْوى في الأسباب: أنَّهم قالوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: صِفْ لنا ربَّك وانْسُبْه.
وقيل: قالوا له: أمِنْ نُحاس هو أم مِنْ حديدٍ؟ فنَزَلَتْ. وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ {الله} مبتدًا، و{أحد} خبرُه. والجملةُ خبرُ الأولُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ {اللَّهُ} بدلًا، و{أحد} الخبرَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ {اللَّهُ} خبرًا أوَّلَ، و{أحد} خبرًا ثانيًا. ويجوزُ أَنْ يكونَ {أحد} خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو أحد.
والثاني: أنَّه ضميرُ الشأنِ لأنه موضعُ تعظيمٍ، والجلمةُ بعدَه خبرُه مفسِّرِةٌ.
وهمزةُ {أحد} بدلٌ من واوٍ، لأنَّه من الوَحْدة، وإبدالُ الهمزةِ من الواوِ المفتوحةِ.
وقيل: منه (امرأةٌ أناة) من الونى وهو الفُتورُ. وتقدَّم الفرقُ بين {أحد} هذا و(أحد) المرادِ به العمومُ، فإنَّ همزةُ ذاك أصلٌ بنفسِها. ونَقَل أبو البقاءِ أنَّ همزةَ {أحد} هذا غيرُ مقلوبةٍ، بل أصلٌ بنفسِها كالمرادِ به العمومُ، والمعروفُ الأولُ. وفَرَّق ثعلب بين (واحد) وبين (أحد) بأنَّ الواحد يدخُلُه العَدُّ والجمعُ والاثنان، و(أحد) لا يَدْخُلُه ذلك. ويقال: اللَّهُ أحد، ولا يقال: زيدٌ أحد؛ لأنَّ للَّهِ تعالى هذه الخصوصيةَ، وزَيْدٌ له حالاتٌ شتى. ورَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّه يُقال: أحد وعشرونَ ونحوه فقد دخلَه العددُ. انتهى.
وقال مكي: إنَّ أحدا أصلُه وَأحد، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً فاجتمع ألفان، لأنَّ الهمزةَ تُشْبه الألفَ، فحُذِفَتْ أحداهما تخفيفًا.
وقرأ عبد الله وأُبَيُّ {اللَّهُ أحد} دونَ {قُلْ} وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {أحد} بغيرِ {قل هو} وقرأ الأعمش: {قل هو اللَّهُ الواحد}.
وقرأ العامَّةُ بتنوين {أحد} وهو الأصلُ. وزيد بن علي وأبان ابن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السَّمَّال وأبو عمروٍ في روايةٍ في عددٍ كثيرٍ بحذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:
عمرُو الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه ** ورجالُ مكةَ مُسْنِتُون عِجافُ

وقال آخر:
فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ ** ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا

{اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}
قوله: {الصمد}: فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ والنَّقَضِ. وهو السَّيِّدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ، أي: يُقْصَدُ ولا يَقْدِرُ على قضائِها إلاَّ هو. وأنشد:
ألا بَكَّرَ النَّاعي بخَيْرِ بني أسدْ ** بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّد الصَّمَدْ

وقال الآخر:
عَلَوْتُه بحُسامٍ ثم قُلْتُ له ** خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ

وقيل: الصَّمَدُ: هو الذي لا جَوْفَ له، ومنه قوله:
شِهابُ حُروبٍ لا تَزال جيادُه ** عوابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيْمَ المُصَمَّدا

وقال ابن كعب: تفسيرُه ما بعده مِنْ قوله: {لم يَلِدْ ولم يُولد} وهذا يُشْبِهُ ما قالوه في تفسير الهَلوع. والأحسنُ في هذه الجملة أَنْ تكون مستقلةً بفائدةِ هذا الخبرِ. ويجوز أنْ يكونَ {الصَّمَدُ} صفةً. والخبرُ في الجملةِ بعده، كذا قيل: وهو ضعيفٌ، من حيث السِّياقُ، فإنَّ السِّياقَ يَقْتضي الاستقلالَ بأخبارِ كلِّ جملةٍ.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد (4)}
قوله: {كُفُوًا أحد}: في نصبِه وجهان:
أحدهما: أنه خبرُ {يكنْ} و{أحد} اسمُها و{له} متعلِّقٌ بالخبر، اي: ولم يكُنْ أحد كُفُوًا له. وقد رَدَّ المبردُ على سيبويهِ بهذه الآيةِ، من حيث إنه يزعمُ أنه إذا تَقَدَّم الظرفُ كان هو الخبرَ، وهنا لم يَجْعَلْه خبرًا مع تقدُّمِه.
وقد رُدَّ على المبردِ بوجهَيْن، أحدهما: أنَّ سيبويهِ لم يُحَتِّمْ ذلك بل جَوَّزه.
والثاني: أنَّا لا نُسَلِّم أن الظرفَ هنا ليس بخبرٍ بل هو خبرٌ، ونصبُ {كُفُوًا} على الحال على ما سيأتي بيانُه.
وقال الزمخشري: الكلامُ العربيُّ الفصيحُ أَنْ يؤخَّرَ الظرفُ الذي هو لَغْوٌ غيرُ مستقِرِّ ولا يُقَدَّمَ. وقد نَصَّ سيبويه في (كتابِه) على ذلك، فما بالُه مُقَدَّمًا في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه؟
قلت: هذا الكلامُ إنما سِيْقَ لنَفْيِ المكافأةِ عن ذاتِ الباري تعالى، وهذا المعنى مَصَبُّه ومَرْكَزُه هو هذا الظرفُ، فكان لذلك أهمَّ شيءٍ وأَعْناه وأحقَّه بالتقديمِ وأَحْراه.
والثاني: أَنْ يُنْصَبَ على الحال مِنْ {أحد} لأنَّه كان صفتَه فلمَّا تقدَّم عليه نُصِب حالًا، و{له} هو الخبر.
قاله مكي وأبو البقاء وغيرُهما. ويجوز أَنْ يكونَ حالًا من الضمير المستكِنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبرًا.
قال الشيخ بعد أَنْ حكى كلامَ الزمخشري ومكي: وهذه الجملةُ ليسَتْ من هذا البابِ وذلك أنَّ قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أحد} ليس الجارُّ والمجرورُ فيه تامًّا، إنما ناقصٌ لا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبرًا لـ: (كان) بل هو متعلِّقٌ بـ: {كُفُوًا} وقُدِّمَ عليه. التقدير: ولم يكنْ أحد مكافِئًا له، فهو في معنى المفعولِ متعلِّقٌ بـ: {كُفُوًا} وتَقَدَّم على {كُفُوًا} للاهتمامِ به، إذ فيه ضميرُ الباري تعالى، وتوسَّطَ الخبرُ وإنْ كان الأصلُ التأخيرَ؛ لأنَّ تأخيرَ الاسمِ هو فاصلةٌ فحَسُنَ ذلك.
وعلى هذا الذي قَرَّرْناه يَبْطُل إعرابُ مكي وغيرِه أنَّ {له} الخبرُ، و{كُفُوًا} حالٌ مِنْ {أحد} لأنه ظرفٌ ناقصٌ لا يَصْلُح أَنْ يكونَ خبرًا. وبذلك يَبْطُل سؤالُ الزمخشريِّ وجوابُه. وسيبويه إنما تكلَّم في الظرفِ الذي يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبرًا وأنْ لا يكون.
قال سيبويه: وتقول: ما كان فيها أحد خيرٌ منك، وما كان أحد مثلُك فيها، وليس أحد فيها خيرٌ منك، إذا جعلت (فيها): مستقرا، ولم تجعَلْه على قولك: فيها زيدٌ قائمٌ أَجْرَيْتَ الصفةَ على الاسم. فإن جَعَلْتَه على (فيها زيدٌ قائمٌ) نَصَبْتَ فتقول: ما كان فيها أحد خيرًا منك، وما كان أحد خيرًا منك فيها، إلاَّ أنَّكَ إذا أرَدْتَ الإِلْغاءَ فلكما أَخَّرْتَ المُلْغَى فهو أَحْسَنُ، وإذا أرَدْتَ أَنْ يكونَ مستقرا فكلما قَدَّمْته كان أحسنَ، والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاءُ والاستقرار عربيٌُّ جيدٌ كثيرٌ قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أحد} وقال الشاعر:
ما دامَ فيهِنَّ فَصِيْلٌ حَيًّا

انتهى كلامُ سيبويه.
قال الشيخ: فأنت ترى كلامَه وتمثيلَه بالظرف الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبرًا. ومعنى قوله: مستقرا: أي: خبرًا للمبتدأ أو لكان.
فإن قلت: فقد مَثَّل بالآية.
قلت: هذا أوقَع مكيًّا والزمخشريَّ وغيرَهما فيما وقعوا فيه، وإنما أراد سيبويه أنَّ الظرفَ التامَّ وهو في قوله:
ما دامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيًّا

أُجْري فَضْلةً لا خبرًا كما أنَّ {له} في الآية أُجْرِي فَضْلَةً فجعلَ الظرفَ القابلَ أن يكونَ خبرًا كالظرفِ الناقصِ في كونِه لم يُستعمل خبرًا. ولا يَشُكُّ مَنْ له ذِهْنٌ صحيحٌ أنه لا ينعقدُ كلامٌ مِنْ {له أحد} بل لو تأخَّرَ {كُفُو} وارتفع على الصفةِ وقد جَعَل {له} خبرًا لم ينعقِدْ منه كلامٌ. بل أنت ترى أنَّ النفيَ لم يتسلَّطْ إلاَّ على الخبرِ الذي هو {كُفُوًا} والمعنى: لم يكنْ أحد مكافِئَه. انتهى ما قاله الشيخ.
وقوله: (ولا يَشُكُّ أحد) إلى آخره تَهْوِيلٌ على الناظرِ. وإلاَّ فقوله: (هذا الظرفُ ناقصٌ) ممنوعٌ؛ لأنَّ الظرفَ الناقصَ عبارةٌ عَمَّا لم يكُنْ في الإِخبارِ به فائدةٌ، كالمقطوعِ عن الإِضافة، ونحوِ (في دارٍ رجلٌ) وقد نَقَلَ عن سيبويه الأمثلَةَ المتقدمةَ نحو: (ما كان فيها أحد خيرًا منك)، وما الفرق بين هذا وبين الآيةِ الكريمة؟ وكيف يقول هذا وقد قال سيبويهِ في آخرِ كلامهِ: والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاء والاستقرار عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ؟
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الكافِ والفاء. وسَهَّل الهمزةَ الأعرجُ وشيبةُ ونافعٌ في روايةٍ. وأسكنَ الفاءَ حمزةُ، وأبدل الهمزةَ واوًا وقفًا خاصة. وأبدلها حفصٌ واوًا مطلقًا. والباقون بالهمزِ مطلقًا. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا في أوائِل البقرةِ في قوله: {هُزُوًا} [البقرة: 67].
وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس {كِفاءٌ} بالكسر والمدِّ، أي: لا مِثْلَ له. وأُنْشِدَ للنابغة:
لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ له

ونافعٌ في رواية: (كِفا) بالكسر وفتح الفاء مِنْ غير مَدّ، كأنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ وحَذَفَها. والكُفْءُ: النظيرُ. وهذا كفْءٌ لك، أي: نظيرُكَ والاسم الكَفاءة بالفتح. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في الأحد:
وهى كلمة تستعمل على ضربين.
أحدهما في النفى فقط؛ والثانى في الإِثبات.
فأَمّا المختصّ بالنْفي فلاستغراق جنس الناطقين.
ويتناول القليل، والكثير، على طريق الاجتماع، والافتراق، نحو ما في الدّار أحد أي لا وأحد، ولا اثنان فصاعدًا، لامجتمعين ولا مفترقين.
ولهذا المعنى لا يضحّ استعماله في الإِثبات؛ لأَنَّ نفى المتضادّين يضحّ، وإِثباتهما لا يصحّ.
فلو قال: في الدّار أحد لكان فيه إِثبات وأحد منفرد، مع إِثبات ما فوق الواحد مجتَمعين، ومتفرقين، وذلك ظاهر الإِحالة.
ولِتناول ذلك ما فوق الواحد يصحّ أَن يقال: ما مِن أحد فاضلين، كقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أحد عَنْهُ حَاجِزِينَ}.
وأَمّا المستعمل في الإِثبات فعلى ثلاثة أَوجه.
الأَوّل: في الواحد المضموم إِلى العشرات؛ نحو أحد عشر، وأحد وعشرين.
والثانى أَن يستعمل مضافًا إِليه، كقوله تعالى: {أَمَّآ أحدكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا}، وقولهم: يوم الأحد أي يوم الأَوّل، ويوم الاثنين.
الثالث: أَن يستعمل مطلقًا وصفًا، وليس ذلك إِلاَّ في وصف الله تعالى.
وأَصله وَحَد، أَبدلوا الواو همزة، على عادتهم في الواوات الواقعة في أَوائل الكلم؛ كما في أُجوه ووجوه، وإِشاح ووِشاح، وامرأَة أَناة ووَناة.
وورد في النصّ على عشرة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحد} {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أحدا أَبَدًا} يعنى أَحمد.
الثانى: بمعنى بِلاَل بن رَبَاح: {وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} أي لبلال.
الثالث: بمعنى يمليخا أحد فِتية الكهف: {فَابْعَثُواْ أحدكُمْ بِوَرِقِكُمْ}.
الرّابع: بمعنى زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أحد مِّن رِّجَالِكُمْ}.
الخامس: بمعنى فَرْد من الخَلْق من أَهل الأَرض، والسّماءِ، من المَلَك، والإِنس والجِنَّ والشيطان {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحدا}.
السّادس: بمعنى دقيانوس {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحدا}.
السّابع: بمعنى إِبليس: {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أحدا}.
الثامن: بمعنى ساقى مالك بن الرّيّان: {قال أحدهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}.
التَّاسع: بمعنى الصّنم، والوَثَن: {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أحدا}، {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أحد وَلَنْ أَجِدَ}.
العاشر: بمعنى الحقّ الواحد، الصّمد تعالى: {أيحسب أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد} {قُلْ هُوَ اللهُ أحد}. اهـ.